مرقة الشرق الأوسط- شهية الغرب الدائمة؟

المؤلف: علي بن محمد الرباعي11.27.2025
مرقة الشرق الأوسط- شهية الغرب الدائمة؟

تعتبر المرقة ذات تأثير بالغ على صحة الإنسان وحيويته، إذ يقال "تمرّق تعرّق"، وقد ارتبطت بها العديد من التقاليد والعادات والآداب، خاصةً مرقة اللحم (الشوربة). وفي الأثر، وردت حكمة بليغة تحث على الكرم والجود، وهي "إذا طبختم لحماً فأكثروا ماءها وتعاهدوا جيرانكم". كما تزخر الأمثال الشعبية بالإشارة إلى فوائدها، فمنها "إذا فاتك اللحم اشرب مرقة"، و"يا مدوّر الرخيصة حظظك الله بالمرق".

تحكي إحدى القصص التراثية القديمة عن أخوين اقتنيا بقرة من منطقة تهامة واصطحباها سيراً على الأقدام عبر طريق جبلي وعر. كان أحدهما ناقماً على أخيه وعلى البقرة وتعساً لحاله. وبينما الأخ الأكبر يقود البقرة، والأصغر يسوقها من الخلف، استغل غفلته وأقدم على دفعها. نتيجة لذلك، انزلقت البقرة وتعلقت بين الحياة والموت. فصاح الأخ الصغير مستغيثاً، وتشبثا بحبلها المتدلي من عنقها. وبحكم عاداتهم وتقاليدهم، استغاثا قائلين: "يا علي، يا علي، يا محمد.. يا محمد". لكن البقرة تردت أكثر وسقطت في الوادي، لتلقى حتفها بكسر في عنقها. عندها، علّق أحدهما بمرارة: "حتى علي ومحمد يشتون المرقة".

لا يوجد مجتمع بشري يخلو من وجود سلطة ما. وقبل تشكل الدولة بمؤسساتها، كانت "السلطات الأهلية" هي الأكثر ظهوراً ونفوذاً، حيث كانت تحكم وتسير الأمور، ثم جاءت الدولة لتسحب أو تقلص من مساحة تلك السلطات، أو تقننها في أفضل الأحوال. ولا يزال جيلي والأجيال التي سبقته تتذكر قوة السلطة الريفية، فالأب هو رئيس الأسرة، والعريفة يرأس القرية، والشيخ هو سيد القبيلة.

وتمثل السلطة مزيجاً من قوتين؛ مادية ومعنوية، وظيفتها خدمة فكرة أو مشروع أو لعب دور معين أو إشباع رغبة في السلطة. ومما سمعته عن متطلبات المشيخة قديماً أنها تحتاج إلى "غِلال زرع، وحلال ضرع، وصِحاف بلع، وعيال بُرع"، فالإمكانات المادية تسهل الأمور وتجعلها ممكنة، بينما تغرس المعنويات الهيبة والوقار في قلوب الناس.

أتخيل أن بعض كبار السن في القرى قديماً كانوا يتمتعون بصفات "الساسة" أو السياسيين إلى حد ما، بل كانوا "أشبه بزعامات عالم اليوم"، خاصةً وأن بعضهم كان يمتلك درجة كبيرة من الدهاء والمكر أحياناً. فالقلق بشأن الحصول على لقمة العيش وندرة الموارد، كان يدفعهم إلى اختلاق مشكلات بشكل شبه دوري؛ لتوفير ما يسد الرمق، مستغلين ما ينتج عن هذه الأزمات من مكاسب ومغانم تصب في صالح ذوي النفوذ ومن يدعمهم ويشرف عليهم.

وكان بعض دهاة القرى، إذا مرت عليهم أسابيع دون تناول اللحم، يتآمرون قائلين: "ودّنا نتمرّق"، والمرقة لن تكون متوفرة إلا بافتعال أزمة. والأزمة بطبيعتها تحتاج إلى أطراف غير متكافئة، ولا يمكن حلها إلا بوجود ضحايا. وقد يتحول ضحايا الأمس إلى جناة في الغد.

بالتأكيد، توجد شخصيات متخصصة في إشعال نار الفتنة والخلافات، ثم تسليم الملف إلى من يقوم بتصعيدها. وهناك شياطين من البشر مهرة، تظهر مواهبهم وقدراتهم في أوقات الفوضى والاضطرابات، بدءًا من التحليق في سماء الفتنة، ثم التعليق عليها، ثم اقتراح الحلول، بشرط أن يترتب على هذا الحل "طاسة مرقة" يستفيدون منها.

وكان أحد الخبراء في إثارة الفتن، يوصي مجموعة الصلح قائلاً: "لا تلحجونها"، أي اتركوا لنا منفذاً أو ثغرة ندخل منها مرة أخرى لإشعالها. أو يقول: "بقّوا لنا معىً ننفخ فيه"، فكأن المشكلة ذبيحة، والإبقاء على أحد الأمعاء يتيح إحياء المشكلة مرة أخرى.

قد لا تكون خفايا اللعبة الدولية اليوم سراً بالغ التعقيد، لدرجة أن يدعي أحد المراقبين "بطولة" من خلال فضح المستور وكشف الخفي. فربما يكون العالم الأول قد درس الشخصية العربية دراسة متعمقة، شملت كل جوانبها وخصائصها، النفسية والروحية والعقلية وحتى الجسدية. كما استعرض التغيرات التي طرأت عليها منذ ما قبل الإسلام وبعد الرسالة، وكيف تفاعلت معها، تفاعلاً أضفى معنى إضافياً لوجودها المؤثر في هذه الرقعة الجغرافية.

وربما بحكم التجارب التاريخية السابقة واللاحقة، ينظر الغرب إلى العربي نظرة حذر وترقب، معتبراً إياه "خطيرًا"، وأن هذه الخطورة تهدد هيمنته، حتى وإن كان ذلك على المدى البعيد. ومن هنا نشأت فكرة إثقاله "بأعباء حقيقية ومتوهمة"، وكأن هذه المشاكل هي "المرساة" التي يلقيها البحارة في قاع البحر، لمنع القارب من التحرك أو السماح له بحركة محدودة بما يسمح به عمق المرفأ وحالة الطقس.

ويبدو أن زرع إسرائيل في أرض فلسطين لم يكن عشوائياً، حتى وإن ادعى البعض أن هناك خيارات بديلة كانت متاحة. إلا أن اختيار الموقع يعتبر "إستراتيجياً" بامتياز، بغض النظر عن المقدسات التي كفر بها معظم الغرب ومعظم الإسرائيليين. فالمكان أشبه بسقف العالم العربي، والسقف القائم على أركان واهية، قابل للانهيار، والانهيار سيؤدي إلى تحويل ما تحته إلى أنقاض أو جثث تحت الأنقاض.

ولم يكتف الغرب بجعل إسرائيل "السقف"، بل قام بصنع "إيران" لتساهم من الشرق في حماية هذا السقف من الانهيار، وذلك من خلال اختلاق أزمات ومشكلات "خارج إطار الصراع العدائي"، تارةً باسم الطائفية، وطوراً باسم الممانعة، وثالثة بشعارات التخلص من الشيطان الأكبر. وتشير الأحداث الأخيرة إلى أن "المرقة" هي الشغل الشاغل للمعسكرين الشرقي والغربي، وإيران مسؤولة عن توفير البهارات الحاذقة لإضفاء النكهة المميزة.

وفي رواية "رجال في الشمس" للكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، يروي قصة تهريب "أبو قيس، وأسعد، ومروان" في خزان شاحنة، واتفاقهم مع السائق "أبو الخيزران" على اجتياز الحدود في أقل من خمس دقائق؛ وإلا ماتوا اختناقاً. ووعدهم خيراً، كونه يعرف الجنود. إلا أن جنود الحدود أوقفوا "أبا الخيزران" وانشغلوا معه في الحديث عن علاقته بالراقصة "كوكب"، بينما هو يريد التخلص منهم بأسرع وقت ممكن، وهم يطيلون الحديث. ونتيجة لذلك، انقطعت أنفاسهم داخل الخزان الحديدي، تحت حرارة الشمس اللاهبة في عزّ صيف آب.

وبسبب الحبكة الفنية العالية للرواية، التي تحولت إلى فيلم سينمائي، يشعر القارئ بالاندماج الكامل في الأحداث، ويتمنى أن يصرخ بأعلى صوته ليصل إلى المحتجزين داخل الخزان، مطالباً إياهم بفتح الغطاء، أو أن يطلب من رجال الدرك الذين انغمسوا في الحديث الغرامي الممتع أن يتوقفوا عن الأسئلة ويعتقوا السائق الذي أصيب بالهستيريا، فهو لا يريد استفزازهم فينكشف أمره، وفي الوقت نفسه يريد اختصار الوقت لإنقاذ ركابه. إلا أن "تسع دقائق" كانت كافية لإنهاء حياة هؤلاء الشباب وتبديد أحلامهم.

استذكرت هذه الصورة السردية المؤثرة، أثناء متابعتي لجلسات الحوار البيزنطي الدائر بين الإسرائيليين وحماس، بينما الشعب الفلسطيني البريء يدفع روحه ثمناً لحوار لا يرغب رعاة السلام في إنهائه، وكأن الفلسطينيين هم أولئك "الثلاثة" الذين اختنقوا في خزان صامت، وظروف قاسية.

وفي ظل وجود بيئة عربية حافلة بالكرم المفرط والظلم، يبدو أن مرقة الشرق الأوسط أصبحت الخيار المفضل للغرب، الذي استساغ طعم المرقة المبهّرة بالزعفران الشهية، وسيستمرون في التهامها بشراهة، على الرغم من تحذيرات الأطباء من الدهون ومخاطر انتفاخ البطون.

تلويحة: جميع الشعوب تمر بأزمات وتحديات، لكنها تتجاوزها بتجدد الحياة، إذا تغلبت على شعور الانهزام.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة